إنهما مجرد سفينتين صغيرتين قد تتردد عندما تعرف أن هليك أن تعبر البحر المتوسط على متن إحداهما، لكنهما رغم ذلك قامتا بالخطوة التي انتظرها الكثيرون من منظمات حكومية وإقليمية بحجم جامعة الدول العربية. السفينتان اللتان أبحرتا من قبرص وصلاً إلى غزة بهدف كسر الحصار؛ وعلى متنهما نشطاء سلام أثبتتا هشاشة هذا الحصار، وأن الأمر لم يكن يتطلب سوى عزيمة صادقة، وقدر من الشجاعة. قد يتفاجأ البعض عندما يعرف أن من بين هؤلاء الناشطين الذين قاموا بهذه الخطوة مواطناً إسرائيلياً !! وربما تزداد المفاجأة عندما نعرف أن جيف هالبر ؛ الذي يرأس منظمة أطلق عليها "اللجنة الإسرائيلية ضد هدم البيوت" هو من قام بهذه الخطوة.
أحرجونا (الخواجات)
فهمي هويدي
أحرجنا أولئك «الخواجات» الشرفاء الذين نجحوا في كسر الحصار المفروض علي غزة، ولفتوا أنظار العالم إلي محنة القطاع الذي يتعرض للخنق منذ أكثر من عام وسط صمت الجميع، العرب منهم قبل العجم، ذلك أنه لم يخطر لنا علي بال أن يغامر 44 ناشطًا من 14 دولة غربية بالإبحار إلي غزة علي سفينتين خشبيتين حُمِّلتا ببعض الأغذية والأدوية، وأن يعلن المتحدثون باسمهم أن مهمتهم ليست إنسانية فحسب، ولكنها سياسية أيضًا، أقدم هؤلاء علي مغامرتهم متحدين التحذيرات الإسرائيلية التي هددتهم باستخدام مختلف الوسائل لمنعهم من الوصول إلي شاطئ غزة، وعارفين جيدًا أن السلطات الإسرائيلية لم تتردد في قمع النشطاء الذين يحاولون الاعتراض علي بناء الجدار الوحشي الذي يلتهم الأراضي الفلسطينية. وسبق لها أن قتلت بإحدي الجرافات واحدة منهم، هي الأمريكية اليهودية ريتشيل كوري، لكنهم بشجاعتهم وتصميمهم علي المضي في رحلتهم استطاعوا أن يهزموا العربدة الإسرائيلية، بعدما أصبح المسئولون في تل أبيب مخيرين بين أن يتعرضوا للفضيحة أمام العالم أو أن يتراجعوا عن اعتراضهم، فاختاروا تجنب الفضيحة لمواراة الجريمة وإخفاء الوجه القبيح.

لقد تناقلت وكالات الأنباء ما ذكرته الصحفية البريطانية إيفون ريدلي من أنه توجد في غزة عملية إبادة جماعية لا يلاحظها كثيرون (هل تقصد الزعماء العرب؟) كانت إيفون واحدة من تلك المجموعة الشجاعة التي ضمت نماذج من البشر جمعتهم النزاهة ويقظة الضمير، وقد استغربت أن تضم راهبة كاثوليكية عمرها 81 سنة وعضو في البرلمان اليوناني وشقيقة زوجة رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير وأستاذ إسرائيلي في علم السلالات الإنسانية (الأنثروبولوجي) هو البروفيسور جيف هالبر الذي رشح لجائزة نوبل لمشاركته مع جماعة تهدف إلي بناء منازل الفلسطينيين التي هدمتها الجرافات الإسرائيلية. وذكرت التقارير الصحفية أن يهوديًا عمره 84 سنة اسمه هيدي ابيشتاين من بين الناجين من المحرقة، كان مقدرًا له أن يشارك في الرحلة لكنه منع لأسباب طبية.

هؤلاء أناس شرفاء حقًا وأصحاب ضمائر حية لا ريب، ولا أشك أن أمثالهم كثيرون من النشطاء في العالم العربي، لكن ما شجع الأوروبيين علي أن يقوموا بما قاموا به أنهم يملكون قرارهم ويعيشون في دول ديمقراطية لا تستطيع أن تحاسبهم علي ما فعلوه، حتي إن سفينتيهم اللتين توقفتا في قبرص، رفضت السلطات القبرصية الاستجابة لطلب الحكومة الإسرائيلية منعهما من الإبحار، ونقلت الوكالات عن مصدر قبرصي قوله إن القانون يسمح لهم بالمغادرة طالما أن وثائقهم سليمة، ولا نستطيع أن ننتهكه، ولست أشك في أن السفينتين لو توقفتا في أي ميناء عربي وطلب الإسرائيليون من سلطاته احتجازهما وعدم السماح لهما بمواصلة الرحلة، لنفذ الطلب دون تردد!

لقد فعل الناشطون الغربيون ما عجز العالم العربي أن يفعله، ونجحوا في كسر الحصار الذي قرره وزراء الخارجية العرب في لحظة تجلٍ قبل أكثر من خمسة عشر شهرًا، ثم لحسوا القرار فور صدوره، بحيث لم نعثر له علي أثر في اليوم التالي مباشرة، وما تصور أحد أن الوزراء المحترمين يمكن أن يتسلحوا بشجاعة تدفعهم إلي فعل شيء مما فعله النشطاء الأوروبيون، فيشكلوا وفدًا يحمل المؤن والأدوية إلي المحاصرين. والسبب في ذلك معروف، هو أن أولئك الوزاء يمثلون دولاً لا تملك إرادتها، وقرار مثل هذا قد تحتمل إصداره والتغني به أمام وسائل الإعلام، لكنها لا تملك القدرة علي تنفيذه.

أما الناشطون العرب فإنهم يتعرضون للقمع والسجن إذا فكروا في محاولة من ذلك القبيل، وأمام إحدي المحاكم المصرية قضية اتهم فيها شخص بجمع أموال لمساعدة حركة حماس في غزة، وقد ذكرت قبل عشرة أيام أن أحد الناشطين العرب أحضر سيارة محملة بالأغذية والأدوية وأراد إدخالها إلي غزة، لكنه محتجز أمام معبر رفح منذ أكثر من شهر ولم يسمح له بالدخول. وهو ليس وحيدًا في ذلك، لأن ما حدث معه تكرر مع العديد من المنظمات والنقابات ومؤسسات المجتمع المدني العربي.

إن قطاع غزة ليس وحده المحاصر، لأن الشعب العربي محاصر أيضًا، وكسر ذلك الحصار الأخير كفيل بفك الحصار تلقائيًا عن غزة.. ادعوا الله أن يفرج كربنا وكربهم.